كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



(الْجَزَاءُ وَالْخَلَاصُ فِي الْإِسْلَامِ) يَتَوَهَّمُ دُعَاةُ النَّصْرَانِيَّةِ مِنَ الْقِيَاسِ عَلَى مَذْهَبِهِمْ، وَمِنَ الْخُرَافَاتِ الَّتِي سَرَتْ إِلَى بَعْضِ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ- أَنَّ الْإِسْلَامَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ النَّجَاةَ فِي الْآخِرَةِ، وَالسَّعَادَةَ الْأَبَدِيَّةَ فِيهَا، إِنَّمَا تَكُونُ بِمِثْلِ مَا يُسَمُّونَهُ الْفِدَاءَ فِي عَقِيدَةِ الصَّلْبِ. وَأَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ إِنَّمَا هُوَ فِي الْفَادِي، فَهُمْ يَقُولُونَ إِنَّهُ الْمَسِيحُ، وَنَحْنُ نَقُولُ إِنَّهُ مُحَمَّدٌ، عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ؛ وَلِذَلِكَ يُشَكِّكُونَ عَوَامَّ الْمُسْلِمِينَ فِي دِينِهِمْ، بِمَا يَكْتُبُونَ مِنْ سَفْسَطَةِ الْجَدَلِ فِي صُحُفِهِمْ وَكُتُبِهِمْ، وَمَا يَقُولُونَ فِي الْمَجَالِسِ وَالْمَجَامِعِ بِأَلْسِنَتِهِمْ، وَمَدَارُهُ عَلَى قَوْلِهِمْ: إِنَّ الْمَسِيحَ لَمْ يُخْطِئْ قَطُّ، وَإِنَّ نَبِيَّنَا قَدْ أَذْنَبَ. وَالْمُذْنِبُ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُنْقِذَ مَنْ هُوَ مِثْلُهُ مِنْ تَبِعَةِ ذَنْبِهِ، وَإِنَّمَا يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ مَنْ لَمْ يُذْنِبْ.
أَمَّا نَحْنُ الْمُسْلِمِينَ، فَلَا نَرُدُّ عَلَيْهِمْ هَذَا بِتَخْطِئَةِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ فَقَطْ، وَلَا بِتَعْجِيزِهِمْ فِي إِثْبَاتِ دَعْوَاهُمْ أَنَّ الْمَسِيحَ لَمْ يَقْتَرِفْ خَطِيئَةً بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ، وَكَوْنِ الدَّلِيلِ النَّقْلِيِّ هُنَا لَا يُمْكِنُ إِلَّا إِذَا فُرِضَ أَنَّ عَدَدًا كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يُعَدُّ نَقْلُهُمْ تَوَاتُرًا صَحِيحًا، قَدْ لَازَمُوا الْمَسِيحَ فِي كُلِّ سَاعَاتِ حَيَاتِهِ وَدَقَائِقِهَا، فَلَمْ يَرَوْا مِنْهُ خَطِيئَةً فِيهَا، وَلَمْ يَحْصُلْ هَذَا قَطُّ. أَوْ فَرْضُ نَصٍّ صَرِيحٍ مِنَ الْوَحْيِ يَخُصُّهُ بِذَلِكَ، وَلَيْسَ عِنْدَهُمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ يَقُومُ حُجَّةً عَلَيْنَا، وَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَحُجُّونَا بِمَا عِنْدَنَا مِنَ الْقَوْلِ بِعِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ؛ لِأَنَّ هَذَا- عَلَى كَوْنِهِ عَامًّا يُعَدُّ عِنْدَنَا لِجَمِيعِ الرُّسُلِ- مِنْ الِاحْتِجَاجِ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى نَقْضِ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ اعْتِقَادَنَا يَنْقُضُ اعْتِقَادَهُمْ وَاعْتِقَادَهُمْ يَنْقُضُ اعْتِقَادَنَا، فَالِاحْتِجَاجُ بِمِثْلِ هَذَا إِذَا نَفَعَ فِي إِفْحَامِ الْخَصْمِ وَإِلْزَامِهِ، لَا يَنْفَعُ فِي إِقْنَاعِهِ، وَالْمُرَادُ فِي هَذَا الْمَقَامِ الْإِقْنَاعُ، لَا مُجَرَّدُ الْغَلَبِ فِي الْخِصَامِ.
وَلَا نَرُدُّ عَلَيْهِمْ أَيْضًا بِأَنَّ إِثْبَاتَ الْخَطِيئَةِ عَلَى نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم مُتَعَذِّرٌ عَلَيْهِمْ، وَأَنَّهُ لَا يَنْفَعُهُمْ فِي هَذَا الْمَقَامِ الْمُشَاغَبَةُ بِمِثْلِ {لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [48: 2] لِأَنَّ الْخَطِيئَةَ الَّتِي نَنْفِيهَا عَنْ مُحَمَّدٍ وَالْمَسِيحِ عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ، هِيَ مُخَالَفَةُ دِينِ اللهِ تَعَالَى بِارْتِكَابِ مَا نَهَى الله عَنْهُ، أَوْ تَرْكُ مَا أَمَرَ بِهِ. وَالذَّنْبُ فِي اللُّغَةِ كُلُّ عَمَلٍ لَهُ تَبِعَةٌ لَا تَسُرُّ الْعَامِلَ وَلَا تُوَافِقُ غَرَضَهُ، فَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ ذَنَبِ الْحَيَوَانِ. وَمِثْلُ هَذَا يَقَعُ مِنْ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ. وَمِثَالُهُ مِنْ عَمَلِ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم إِذْنُهُ لِبَعْضِ الْمُنَافِقِينَ فِي التَّخَلُّفِ وَالْقُعُودِ عَنِ السَّفَرِ مَعَهُ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَكَانَ إِذْنُهُ لَهُمْ مَبْنِيًّا عَلَى اجْتِهَادٍ صَحِيحٍ، وَهُوَ أَنَّهُمْ إِذَا خَرَجُوا وَهُمْ كَارِهُونَ وَمُصِرُّونَ عَلَى نِفَاقِهِمْ، يَضُرُّونَ وَلَا يَنْفَعُونَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ} [9: 47] وَلَكِنْ لَوْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُمْ لَتَبَيَّنَ لَهُ الصَّادِقُ مِنَ الْمُعْتَذِرِينَ، وَعَلِمَ الْكَاذِبِينَ مِنْهُمْ. فَكَانَ هَذَا الْإِذْنُ ذَنْبًا؛ لِأَنَّ لَهُ عَاقِبَةً مُخَالِفَةً لِلْمَقْصِدِ أَوْ لِلْمَصْلَحَةِ، وَهِيَ عَدَمُ ذَلِكَ التَّبَيُّنِ وَالْعِلْمِ، فَإِنَّ أُولَئِكَ الْكَاذِبِينَ فِي الِاعْتِذَارِ الَّذِي بَنَوْا عَلَيْهِ الِاسْتِئْذَانَ، مَا كَانُوا يُرِيدُونَ الْخُرُوجَ مَعَهُ صلى الله عليه وسلم مُطْلَقًا، أَذِنَ أَوْ لَمْ يَأْذَنْ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ اللهُ تَعَالَى فِي هَذَا الذَّنْبِ: {عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنَتْ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} [9: 43] فَمِثْلُ هَذَا، وَإِنْ سُمِّيَ ذَنْبًا لُغَةً، لَا يُعَدُّ مِنَ الْخَطَايَا الَّتِي تَمْنَعُ الْإِنْسَانَ مِنِ اسْتِحْقَاقِ مَلَكُوتِ اللهِ، وَمَثُوبَتَهُ فِي الْآخِرَةِ، أَوْ تَجْعَلُ شَفَاعَتَهُ مَرْدُودَةً. عَلَى أَنَّ فِي سِيرَةِ كَثِيرٍ مِنَ الصُّلَحَاءِ الْمُسْلِمِينَ مَنْ لَمْ تُعْرَفْ لَهُ وَلَمْ تَقَعْ مِنْهُ خَطِيئَةٌ مِنَ الْخَطَايَا الَّتِي يَرْمِي الصَّلِيبِيُّونَ بِهَا الْأَنْبِيَاءَ وَالرُّسُلَ، عَلَيْهِمُ السَّلَامُ.
لَا نَرُدُّ عَلَى قَاعِدَةِ هَؤُلَاءِ بِأَمْثَالِ هَذِهِ النَّوَاقِضِ لِأُسُسِهِمْ، وَالْهَوَادِمِ لِأَبْنِيَتِهِمْ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ عِنْدَنَا هِيَ مَوْضُوعَ النَّجَاةِ وَالسَّعَادَةِ فِي الْآخِرَةِ، فَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّ مَزَاعِمَهُمْ فِيهَا صَحِيحَةٌ، لَا يَضُرُّنَا ذَلِكَ شَيْئًا؛ وَلِذَلِكَ اخْتَصَرْنَا فِيهَا هُنَا اعْتِمَادًا عَلَى بَيَانِهَا الْمُفَصَّلِ فِي مَوَاضِعِهَا مِنَ التَّفْسِيرِ وَغَيْرِهِ، وَإِنَّمَا نَرُدُّ عَلَيْهِمْ بِبَيَانِ عَقِيدَةِ الْإِسْلَامِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَنَذْكُرُهَا هُنَا بِالْإِيجَازِ؛ لِأَنَّ شَرْحَهَا قَدْ تَقَدَّمَ مِرَارًا كَثِيرَةً فَنَقُولُ:
إِنَّ مَدَارَ نَجَاةِ الْإِنْسَانِ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْعِقَابِ، وَفَوْزَهُ بِالنَّعِيمِ وَالسَّعَادَةِ الْأَبَدِيَّةِ إِنَّمَا هُوَ عَلَى تَزْكِيَةِ نَفْسِهِ وَتَطْهِيرِهَا مِنَ الْعَقَائِدِ الْوَثَنِيَّةِ الْبَاطِلَةِ وَالْأَخْلَاقِ الْفَاسِدَةِ حَتَّى تَكُونَ مُتَخَلِّيَةً عَنِ الْأَبَاطِيلِ وَالشُّرُورِ، مُتَحَلِّيَةً بِالْفَضَائِلِ وَعَمَلِ الْبَرِّ وَالْخَيْرِ، وَمَدَارُ الْهَلَاكِ عَلَى ضِدِّ ذَلِكَ. قَالَ اللهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الشَّمْسِ: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [91: 7- 10] فَاللهُ تَعَالَى جَعَلَ كُلَّ إِنْسَانٍ مُتَمَكِّنًا بِقُوَاهُ الْفِطْرِيَّةِ مِنْ أَعْمَالِ الْفُجُورِ وَالشُّرُورِ، وَمِنْ أَعْمَالِ التَّقْوَى وَالْخَيْرَاتِ، وَهُوَ الَّذِي يُزَكِّي نَفْسَهُ بِهَذِهِ، أَوْ يُدَسِّيهَا بِتِلْكَ. فَمَنْ صَحَّتْ عَقِيدَتُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ صَلُحَتْ نَفْسُهُ وَزَكَتْ، وَكَانَتْ أَهْلًا لِلنَّعِيمِ فِي ذَلِكَ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ، وَمَنْ كَانَتْ عَقِيدَتُهُ خُرَافِيَّةً بَاطِلَةً وَأَعْمَالُهُ سَيِّئَةً، فَسَدَتْ أَخْلَاقُهُ وَخَبُثَتْ نَفْسُهُ، وَكَانَ هُوَ الَّذِي تَكَلَّفَ تَدْسِيَتَهَا وَدَهْوَرَتَهَا إِلَى هَاوِيَةِ الْجَحِيمِ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي التَّزْكِيَةِ أَلَّا يُلِمَّ الْإِنْسَانُ بِخَطَأٍ، وَلَا تَقَعَ مِنْهُ سَيِّئَةٌ أَلْبَتَّةَ. بَلِ الْمَدَارُ عَلَى طَهَارَةِ الْقَلْبِ وَسَلَامَتِهِ مِنَ الْخُبْثِ وَسُوءِ النِّيَّةِ، بِحَيْثُ إِذَا غَلَبَهُ بَعْضُ انْفِعَالَاتِ النَّفْسِ فَأَلَمَّ بِذَنْبٍ يُبَادِرُ إِلَى التَّوْبَةِ، وَيَلْجَأُ إِلَى النَّدَمِ وَالِاسْتِغْفَارِ، وَتَكْفِيرِ ذَلِكَ الذَّنْبِ بِعَمَلٍ صَالِحٍ. فَيَكُونُ مَثَلُ نَفْسِهِ كَمَثَلِ بَيْتٍ تَتَعَاهَدُهُ رَبَّتُهُ بِالْكَنْسِ وَالْمَسْحِ وَسَائِرِ وَسَائِلِ النَّظَافَةِ، فَإِذَا أَلَمَّ بِهِ غُبَارٌ أَوْ أَصَابَهُ دَنَسٌ بَادَرَتْ إِلَى إِزَالَتِهِ فَيَكُونُ الْغَالِبُ عَلَيْهِ النَّظَافَةَ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي الشَّهَادَةِ لَهُ بِذَلِكَ مَا لَا تَخْلُو مِنْهُ الْبُيُوتُ النَّظِيفَةُ عَادَةً مِنْ قَلِيلِ غُبَارٍ أَوْ وَسَخٍ لَا يَلْبَثُ أَنْ يُزَالَ، فَالْجَزَاءُ أَثَرٌ لَازِمٌ لِلْعَمَلِ، وَلَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا.
وَقَدْ شَرَحْنَا هَذَا الْمَعْنَى بِالتَّفْصِيلِ فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ؛ مِنْهَا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ مَا تَقَدَّمَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} [4: 123، 124].
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينِ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينِ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [4: 17، 18] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} [4: 31] وَقَوْلِهِ: {إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [4: 48، 116] إِلَخْ.
فَمَنْ أَخْلَصَ لِلَّهِ فِي تَزْكِيَةِ نَفْسِهِ، وَإِصْلَاحِهَا بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، بِقَدْرِ اسْتِطَاعَتِهِ، كَانَ مَقْبُولًا مَرْضِيًّا عِنْدَ اللهِ تَعَالَى وَلَا يُؤَاخِذُهُ تَعَالَى بِمَا لَا يَسْتَطِيعُ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ، وَكَانَ مَحْرُومًا مِنْ رِضْوَانِهِ الْأَكْبَرِ، وَلَا يَنْفَعُهُ فِي الْآخِرَةِ شَفَاعَةُ شَافِعٍ، وَلَا يَقْبَلُ مِنْهُ فِدَاءً لَوْ مَلَكَ الْفِدَاءَ، وَلَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْ يَشْفَعَ لِأَحَدٍ لَمْ يُرْضِ اللهَ تَعَالَى بِالْإِيمَانِ وَالْإِخْلَاصِ، وَتَزْكِيَةِ النَّفْسِ الَّتِي يَغْلِبُ بِهَا الْحَقُّ وَالْخَيْرُ عَلَى ضِدِّهِمَا {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [2: 255] {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [21: 28] {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ} [2: 123] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ} [2: 254].
وَقَدْ عُلِمَ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَزْكِيَةِ النَّفْسِ، وَتَدْسِيَتِهَا بِعَمَلِ الْإِنْسَانِ وَكَسْبِهِ الِاخْتِيَارِيِّ، أَنَّ الْجَزَاءَ فِي الْآخِرَةِ أَثَرٌ لَازِمٌ لِلتَّزْكِيَةِ وَالتَّدْسِيَةِ، مُرَتَّبٌ عَلَيْهِمَا تَرَتُّبَ الْمُسَبَّبِ عَلَى الْمُسَبِّبِ، وَالْمَعْلُولِ عَلَى الْعِلَّةِ، بِفَضْلِ اللهِ وَحِكْمَتِهِ، وَمُقْتَضَى سُنَّتِهِ فِي خَلْقِهِ {وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} [2: 261] {وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} [4: 173].
أَلَيْسَتْ هَذِهِ التَّعَالِيمُ الْإِسْلَامِيَّةُ هِيَ الَّتِي تَرْفَعُ قَدْرَ الْإِنْسَانِ، وَتُعْلِي هِمَّتَهُ، وَتَحْفِزُهُ إِلَى طَلَبِ الْكَمَالِ بِإِيمَانِهِ وَإِخْلَاصِهِ وَأَعْمَالِهِ الصَّالِحَةِ؟ أَلَيْسَتْ أَفْضَلَ وَأَنْفَعَ مِنْ الِاتِّكَالِ عَلَى تِلْكَ الْقِصَّةِ الصَّلِيبِيَّةِ الْمَأْثُورِ مِثْلُهَا عَنْ خُرَافَاتِ الْوَثَنِيِّينَ؟ الَّتِي لَا يُصَدِّقُهَا عَقْلٌ مُسْتَقِلٌّ، وَلَا يَطْمَئِنُّ بِهَا قَلْبٌ سَلِيمٌ، الْمُخَالِفَةِ لِسُنَنِ الْفِطْرَةِ وَنِظَامِ الْخِلْقَةِ، الَّتِي أَفْسَدَتِ الْعُقُولَ وَالْأَخْلَاقَ فِي الْمَمَالِكِ الصَّلِيبِيَّةِ مُنْذُ شَاعَتْ فِيهَا بِنُفُوذِ الْمَلِكِ قُسْطَنْطِينَ الصَّلِيبِيِّ، إِلَى أَنْ عَتَقَتْ أُورُبَّةُ مِنْ رِقِّ الْكَنِيسَةِ، بِنُورِ الْعِلْمِ وَالِاسْتِقْلَالِ اللَّذَيْنِ أَشْرَقَا عَلَيْهَا مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ. (وَلَكِنْ وَاأَسَفَا عَلَى ذَلِكَ النُّورِ الَّذِي ضُرِبَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَهْلِهِ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ، ظَاهِرُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَبَاطِنُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ، وَوَاشَوْقَاهُ إِلَى الْيَوْمِ الَّذِي يَنْدَكُّ فِيهِ هَذَا السُّورُ الَّذِي حَجَبَهُمْ عَنِ الْقُرْآنِ).
(عَقِيدَةُ الصَّلْبِ وَالْفِدَاءِ وَثَنِيَّةٌ) اعْتَرَفَ أَمَامَنَا كَثِيرٌ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّهُمْ نَصَارَى، بِأَنَّ كُلًّا مِنْ هَذِهِ الْعَقِيدَةِ، وَعَقِيدَةِ التَّثْلِيثِ لَا تُعْقَلُ، وَأَنَّ الْعُمْدَةَ عِنْدَهُمُ النَّقْلُ عَنْ كُتُبِهِمُ الْمُقَدَّسَةِ، فَلَمَّا كَانَتْ تِلْكَ الْكُتُبُ ثَابِتَةً عِنْدَهُمْ وَجَبَ أَنْ يَقْبَلُوا جَمِيعَ مَا فِيهَا، سَوَاءٌ عُقِلَ أَمْ لَمْ يُعْقَلْ، وَيَقُولُ بَعْضُهُمْ: إِنَّ كُلَّ دِينٍ مِنَ الْأَدْيَانِ فِيهِ عَقَائِدُ وَأَخْبَارٌ يَجْزِمُ الْعَقْلُ بِاسْتِحَالَتِهَا، وَلَكِنَّهَا تُؤْخَذُ بِالتَّسْلِيمِ.
وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّهُ لَيْسَ فِي عَقَائِدِ الْإِسْلَامِ شَيْءٌ يَحْكُمُ الْعَقْلُ بِاسْتِحَالَتِهِ، وَإِنَّمَا فِيهِ أَخْبَارٌ عَنْ عَالَمِ الْغَيْبِ لَا يَسْتَقِلُّ الْعَقْلُ بِمَعْرِفَتِهَا؛ لِعَدَمِ الِاطِّلَاعِ عَلَى ذَلِكَ الْعَالَمِ، وَلَكِنَّهَا كُلَّهَا مِنَ الْمُمْكِنَاتِ أَخْبَرَ بِهَا الْوَحْيُ، فَصَدَّقْنَاهُ، فَالْإِسْلَامُ لَا يُكَلِّفُ أَحَدًا أَنْ يَأْخُذَ بِالْمُحَالِ.
وَأَمَّا نَقْلُهُمْ هَذِهِ الْعَقِيدَةِ عَنْ كُتُبِهِمْ (وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ) فَهُوَ مُعَارَضٌ بِنَقْلٍ مِثْلِهِ عَنْ كُتُبِ الْوَثَنِيِّينَ وَتَقَالِيدِهِمْ، فَهَذِهِ عَقِيدَةٌ وَثَنِيَّةٌ مَحْضَةٌ سَرَتْ إِلَى النَّصَارَى مِنَ الْوَثَنِيِّينَ، كَمَا بَيَّنَهُ عُلَمَاءُ أُورُبَّةَ الْأَحْرَارُ، وَمُؤَرِّخُوهُمْ، وَعُلَمَاءُ الْآثَارِ وَالْعَادِيَاتِ مِنْهُمْ فِي كُتُبِهِمْ.
قَالَ (دُوَانُ) فِي كِتَابِهِ: خُرَافَاتُ التَّوْرَاةِ وَمَا يُقَابِلُهَا مِنَ الدِّيَانَاتِ الْأُخْرَى (ص 181، 182) مَا تَرْجَمَتُهُ بِالتَّلْخِيصِ: إِنَّ تَصَوُّرَ الْخَلَاصِ بِوَاسِطَةِ تَقْدِيمِ أَحَدِ الْآلِهَةِ ذَبِيحَةَ فَدَاءٍ عَنِ الْخَطِيئَةِ، قَدِيمُ الْعَهْدِ جِدًّا عِنْدَ الْهُنُودِ الْوَثَنِيِّينَ، وَغَيْرِهِمْ وَذَكَرَ الشَّوَاهِدَ عَلَى ذَلِكَ: مِنْهَا قَوْلُهُ: يَعْتَقِدُ الْهُنُودُ أَنَّ كَرَشْنَا الْمَوْلُودَ الْبِكْرَ، الَّذِي هُوَ نَفْسُ الْإِلَهِ فِشْنُو الَّذِي لَا ابْتِدَاءَ لَهُ وَلَا انْتِهَاءَ- عَلَى رَأْيِهِمْ- تَحَرَّكَ حُنُوًّا كَيْ يُخَلِّصَ الْأَرْضَ مِنْ ثِقَلِ حِمْلِهَا، فَأَتَاهَا وَخَلَّصَ الْإِنْسَانَ بِتَقْدِيمِ نَفْسِهِ ذَبِيحَةً عَنْهُ.
وَذَكَرَ أَنَّ (مِسْتَرْ مُورْ) قَدْ صَوَّرَ كَرَشْنَا مَصْلُوبًا، كَمَا هُوَ مُصَوَّرٌ فِي كُتُبِ الْهُنُودِ، مَثْقُوبَ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ، وَعَلَى قَمِيصِهِ صُورَةُ قَلْبِ الْإِنْسَانِ مُعَلَّقًا. وَوَجَدْتُ لَهُ صُورَةً مَصْلُوبًا وَعَلَى رَأْسِهِ إِكْلِيلٌ مِنَ الذَّهَبِ، وَالنَّصَارَى تَقُولُ: إِنَّ يَسُوعَ صُلِبَ وَعَلَى رَأْسِهِ إِكْلِيلٌ مِنَ الشَّوْكِ.
وَقَالَ (هُوكْ) فِي ص326 مِنَ الْمُجَلَّدِ الْأَوَّلِ مِنْ رِحْلَتِهِ: وَيَعْتَقِدُ الْهُنُودُ الْوَثَنِيُّونَ بِتَجَسُّدِ أَحَدِ الْآلِهَةِ، وَتَقْدِيمِ نَفْسِهِ ذَبِيحَةً فِدَاءً لِلنَّاسِ مِنَ الْخَطِيئَةِ.
وَقَالَ (مورينورليمس) فِي ص36 مِنْ كِتَابِهِ (الْهُنُودُ): وَيَعْتَقِدُ الْهُنُودُ الْوَثَنِيُّونَ بِالْخَطِيئَةِ الْأَصْلِيَّةِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا جَاءَ فِي مُنَاجَاتِهِمْ، وَتَوَسُّلَاتِهِمُ الَّتِي يَتَوَسَّلُونَ بِهَا بَعْدَ الْكِيَاتْرِي وَهُوَ: إِنِّي مُذْنِبٌ، وَمُرْتَكِبُ الْخَطِيئَةِ، وَطَبِيعَتِي شِرِّيرَةٌ، وَحَمَلَتْنِي أُمِّي بِالْإِثْمِ، فَخَلِّصْنِي يَا ذَا الْعَيْنِ الْحَنْدُوقِيَّةِ، يَا مُخَلِّصَ الْخَاطِئِينَ مِنَ الْآثَامِ وَالذُّنُوبِ.
وَقَالَ الْقَسُّ جُورَكْ كُوكْسَ فِي كِتَابِهِ (الدِّيَانَاتُ الْقَدِيمَةُ) فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ عَنِ الْهُنُودِ: وَيَصِفُونَ كَرَشْنَا بِالْبَطَلِ الْوَدِيعِ الْمَمْلُوءِ لَاهُوتًا لِأَنَّهُ قَدَّمَ شَخْصَهُ ذَبِيحَةً.
وَنَقَلَ هِيجِينْ عَنْ (أندرادا الْكروزويوس) وَهُوَ أَوَّلُ أُورُبِّيٍّ دَخَلَ بِلَادَ النِّيبَالِ وَالتِّبْتِ، أَنَّهُ قَالَ فِي الْإِلَهِ (أَنْدَرَا) الَّذِي يَعْبُدُونَهُ: إِنَّهُ سُفِكَ دَمُهُ بِالصَّلْبِ وَثَقْبِ الْمَسَامِيرِ، لِكَيْ يُخَلِّصَ الْبَشَرَ مِنْ ذُنُوبِهِمْ، وَإِنَّ صُورَةَ الصَّلِيبِ مَوْجُودَةٌ فِي كُتُبِهِمْ.
وَفِي كِتَابِ جورجيوس الرَّاهِبِ صُورَةُ الْإِلَهِ (أَنْدَرَا) هَذَا مَصْلُوبًا، وَهُوَ بِشَكْلِ صَلِيبٍ أَضْلَاعُهُ مُتَسَاوِيَةُ الْعَرْضِ مُتَفَاوِتَةُ الطُّولِ، فَالرَّأْسِيُّ أَقْصَرُهَا (وَفِيهِ صُورَةُ وَجْهِهِ) وَالسُّفْلِيُّ أَطُولُهَا، وَلَوْلَا صُورَةُ الْوَجْهِ لَمَا خَطَرَ لِمَنْ يَرَى الصُّورَةَ أَنَّهَا تُمَثِّلُ شَخْصًا.
هَذَا، وَأَمَّا مَا يُرْوَى عَنِ الْبُوذِيِّينَ فِي (بُوذَهْ) هُوَ أَكْثَرُ انْطِبَاقًا عَلَى مَا يَرْوِيهِ النَّصَارَى عَنِ الْمَسِيحِ، مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ. حَتَّى إِنَّهُمْ يُسَمُّونَهُ الْمَسِيحَ، وَالْمَوْلُودُ الْوَحِيدُ، وَمُخَلِّصَ الْعَالَمِ، وَيَقُولُونَ: إِنَّهُ إِنْسَانٌ كَامِلٌ، وَإِلَهٌ كَامِلٌ تَجَسَّدَ بِالنَّاسُوتِ، وَإِنَّهُ قَدَّمَ نَفْسَهُ ذَبِيحَةً؛ لِيُكَفِّرَ ذُنُوبَ الْبَشَرِ، وَيُخَلِّصَهُمْ مِنْ ذُنُوبِهِمْ، فَلَا يُعَاقَبُونَ عَلَيْهَا، وَيَجْعَلَهُمْ وَارِثِينَ لِمَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ.
بَيَّنَ ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْغَرْبِ، مِنْهُمْ (بِيلْ) فِي كِتَابِهِ (تَارِيخُ بُوذَهْ) و(هُوكْ) فِي رِحْلَتِهِ و(مُولَرْ) فِي كِتَابِهِ (تَارِيخُ الْآدَابِ السِّنْسِكْرِيتِيَّةِ) وَغَيْرُهُمْ.
وَمَنْ أَرَادَ الْمُقَابَلَةَ بَيْنَ إِلَهِ النَّصَارَى، وَآلِهَةِ الْوَثَنِيِّينَ الْأَوَّلِينَ فِي الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَقْرَأَ كِتَابَ الْعَقَائِدِ الْوَثَنِيَّةِ فِي الدِّيَانَةِ النَّصْرَانِيَّةِ، فَهَلْ يُتَصَوَّرُ مِنْ مُسْلِمٍ هَدَاهُ اللهُ بِالْإِسْلَامِ إِلَى التَّوْحِيدِ الْخَالِصِ، وَالدِّينِ الْقَيِّمِ دِينِ الْعَقْلِ وَالْفِطْرَةِ الْمَبْنِيِّ عَلَى تَكْرِيمِ نَوْعِ الْإِنْسَانِ أَنْ يَسْتَحِبَّ الْعَمَى عَلَى الْهُدَى، فَيَرْضَى لِنَفْسِهِ التَّخَبُّطَ فِي ظُلُمَاتِ الْعَقَائِدِ الْوَثَنِيَّةِ؟!